الفقرة الأولى:تقديم عن علم الاجرام:
إن دراسة الظاهرة الإجرامية التي هي موضوع علم الإجرام، من حيث أسبابها وسبل
القضاء عليها، هي دراسة شديدة التعقيد كدراسة النفس البشرية. فالإجرام هو في
حقيقة أمره اتخاذ موقف من قيم معينة، وهذه القيم لا يجرم من يخرج عنها لو لم تكن
فيها محترمة من طرف أغلبية الأفراد المكونين لمجتمع معين، فهم دائما على حق، وهو
اي المجرم على خطأ، وهذا الخطأ هو نسبي، أي بالنسبة لهذا المجتمع وفي هذا الوقت
بالذات، ولأن معايير الخطأ متجددة ومتغيرة بتجدد وتغير القيم الاجتماعية والثقافية .ويعتبر علم الإجرام من بين العلوم الحديثة، وهذه الحداثة تعلل اختلاف النظرة إلى موضوعه، وصعوبة إعطاء تعريف دقيق له، وذلك نتيجة اعتماد كل باحث على وجهة
نظره وتخصصه العلمي. فهو علم الجريمة عند سيلغ النمساوي، علم الواقعة الجنائية
والرجل المجرم عند الأستاذ غرافن السويسري، ويضيف هذا الفقيه ويقول" إن هذا
العلم حديث، وهو لا يزال يبحث عن طريقه ومنهاجه وحتى تعريفه، ولكنه علم ضروري
جدا لرجل القانون والقاضي والمشرع ورجل الدولة المقبل".
ولهذا فإن دراساته تأخرت كثيرا عما كان متوقعا لها، نظرا لما يلحق الإجرام بالمجتمعات
من أخطار كل يوم، وهو في تزايد مستمر، ولازم المجتمعات منذ القدم، وتطورت
الجريمة بتطور المجتمع، واتخذت أشكال متعددة ومتنوعة، تختلف باختلاف طرق
ارتكابها، وتمت دراستها من جوانب متعددة مستعينة في ذلك بمختلف العلوم الإنسانية.
فعلم الإجرام هو العلم الذي يهتم بدراسة الظاهرة الإجرامية بوصفها ظاهرة سلوكية
واجتماعية تتضمن خروجا عن الوضع الاجتماعي الذي استقرت عليه الجماعة، وذلك بما
يلحق الضرر بها ويهدد كيانها ، وهي حقيقة اجتماعية لا يخلو أي مجتمع منها.
وعلم الإجرام من حيث موضوعه ليس بجديد تماما، فقد تنبهت البشرية منذ القديم إلى
المجرم كعنصر ضار، كما تنبهت لأفضل الطرق لوقاية نفسها منه، واتخذت أشكال
متعددة، اتسمت بالقسوة والشدة. وجدير بالذكر أن كل مجتمع بشري، تعارف دوما في
جميع مراحله التاريخية على عدد من القواعد الاجتماعية ارتضاها أو ترسخت فيه مع
مرور الزمن، لتنظيم علاقات الأفراد بعضهم ببعض، وعلاقات الأفراد بالمجتمع، لأنه بدون هذه القواعد لا يمكن لحياة المجتمع المذكور أن تبقى وتستمر. فالتنظيم
الاجتماعي ولو كان بدائيا ضروري لتنظيم الحياة العادية، إذ لا يمكن تصور مجتمع بدون
قواعد، تضبط سلوك أفراده، وتسهر على حماية القواعد المشتركة بين أفراده. كما لا
يمكن لأي مجتمع أن ينعم بالأمن والاستقرار، ما لم يتم احترام القواعد والمعايير
المتعارف عليها. فأي خروج عنها إلا ويهدد كيان المجتمع.
فعلاقة الإنسان بالجريمة قديمة بقدر قدم الوجود على سطح الأرض، ومع تطور العصور
عرفت الجريمة مظاهر مختلفة باختلاف المجتمعات، الشيء الذي دفع هذه الأخيرة إلى
سن تشريعات جنائية جاءت من تاريخ طويل اقترن بوجود الإنسان وما صاحب هذه
التشريعات من تطور، إلى أن وصلت إلى الشكل الحالي الذي عليه اليوم. ويعتبر القانون
الجنائي الذي يعمل على كبح انتشار هذه الجرائم داخل المجتمع، وذلك بقيام المشرع
بوضع أعمال مجرمة يتم فرض عقوبة على مرتكبها سواء أكان ذلك بالفعل أو الترك،
حيث تقوم الجريمة بالأساس على عنصرين أساسيين وهما الجاني (المجرم)، والمجني
عليه. وتختلف أشكال الجريمة باختلاف المعيار المعتمد، حيث نجد معيار الخطورة
مثلا، بمقتضاه نميز بين الجرائم أكثر خطورة (الجنايات) والجرائم متوسطة الخطورة (
جنح) والجرائم القليلة الخطورة (المخالفات). أيضا هناك المعيار الذاتي الذي من خلاله
يتم الفصل بين جرائم النساء وجرائم الرجال بناء على عامل الجنس، بالإضافة إلى
عامل السن الذي نميز بين جرائم الأطفال، إجرام المراهقين أو البالغين، إجرام الشباب،
وإجرام الناضجين أو الكهول، وأخيرا إجرام الشيوخ .وتعد الجريمة اليوم محل اهتمام العديد من الجهات والأطراف، ولئن أضحى الخوض.
فيها جوهر اهتمام بعض التخصصات العلمية الدقيقة كعلم اجتماع الجريمة وعلم
الجريمة وعلم الاجتماع الجنائي، فإنها كذلك تشكل محل تقاطع بعض الاختصاصات
الأخرى من العلوم الإنسانية والاجتماعية، كالعلوم القانونية والسياسية، وعلم النفس
والاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي، إذ يتم ضمن كل اختصاص تناولها من بعض
جوانبها، ومن ثم فعلم الإجرام يرتبط بالعديد من العلوم الجنائية، حيث يستفيد منها
وتستفيد منه، كما يستفيد من التطور الذي عرفته العلوم الإنسانية بشكل عام.
ومن هنا يمكن تعريف الجريمة من وجهة نظر علم الإجرام بأنها:" خروج الفرد على
قواعد السلوك التي سنها المجتمع أو تعارف عليها . " ويرى إميل دوركهايم أن الجريمة
ليست ظاهرة معتلة، بل هي ظاهرة سليمة لأنها توجد في جميع الأنواع الاجتماعية،
مهما اختلفت أشكالها أو صورها ، فهي ملازمة للمجتمع وجودا وعدما، فلا يخلو مجتمع
من المجتمعات من الجريمة. لكن حجم الجرائم المرتكبة يختلف من مجتمع لآخر، ومن
منطقة إلى أخرى. وهذا راجع بالأساس إلى كون الإجرام تتحكم في توزيعه مجموعة
من العوامل.
وعلى الرغم من كون الجريمة ظاهرة مخيفة تهدد أمن واستقرار المجتمع، فلا بد من
البحث بصورة علمية عن طرق القضاء عليها أو تخفيف نسبتها، إذا استحال القضاء
عليها. وهذه هي مهمة علم الإجرام الذي يهتم بدراسة الظاهرة الإجرامية، من خلال البحث عن الأسباب المؤدية إلى ارتكاب الجريمة، بهدف وضع سياسة جنائية ذات طابع
وقائي وعلاجي، تروم بالأساس محاربة الظاهرة الإجرامية.
ولهذا ارتأيت البحث في موضوع شائك ومعقد مرتبط بالفعل الإنساني، تتقاطع فيه
مجموعة من العلوم، ويتعلق الأمر بموضوع السلوك الإجرامي والمحاولات التفسيرية
التي واكبته منذ بداية الإرهاصات الأولى في علم الإجرام إلى الآن. هذا الأخير يدرس
في مادة عريضة وغنية هي علم الإجرام. لذا سوف نركز بشكل أساسي على السلوك
الإجرامي مع ربطه بنظريات علم الإجرام التي لا حصر لها، مما أدت إلى وجود عدة
تعريفات للجريمة، اختلفت باختلاف المقاربة المتبعة في تفسير الظاهرة الإجرامية.
وهذا ما جعلني أركز على بعض النظريات، بهدف فهم وتوضيح السلوك الإجرامي، الذي
يشكل هاجسا يهدد كيان المجتمع، ويحول دون نشر الأمن والسكينة بين أفراد المجتمع.
كما يضرب في العمق قيم العيش المشترك.
لكن قبل التطرق لدراسة علم الإجرام، لا بد أولا من تحديد وتبسيط المفاهيم الأساسية
التي تكون موضوع علم الإجرام. فهو من العلوم الحديثة التكوين، مما يستدعي
الوقوف على مختلف العلوم الإنسانية التي ساهمت في تكوينه. ونظرا لكون الظاهرة
الإجرامية تشكل موضوع علم الإجرام، فهذا يجعلها على درجة كبيرة من التعقيد، وذلك
نظرا لتداخل مجموعة من العوامل في السلوك الإجرامي. وهذا ما أدى إلى تعدد
المقاربات والنظريات، تبعا لاختلاف المنهجية المتبعة في البحث، فكل مقاربة تتبنى
منهجية معينة في تناولها للظاهرة الإجرامية.
الفقرة الثانية: تحديد علم الإجرام وبيان أهميته:
مما لاشك فيه أن تحديد مفهوم علم الإجرام يستدعي أولا تحديد موضوعه، المتمثل
بالأساس في المجرم والجريمة، في أبعادهما المتشعبة والمتعددة الأبعاد. ودراسة
الجريمة تطورت مع تطور الفكر الإنساني، الذي حاول الإجابة عن أسئلة كانت ولازالت
تشغل بال الباحثين والدارسين في الظاهرة الإجرامية منذ القديم وإلى الآن، والمتمثلة
بالأساس في تحديد مفهوم الجريمة، وما الأسباب الدافعة إلى ارتكابها؟
وجوابا على الإشكال المطروح، تطرق الفكر الإنساني لمفهوم الجريمة، وبدأت
الإرهاصات الأولى لرسم حدود الجريمة ومعرفة أسبابها، مما أفضى إلى ظهور مقاربات
علمية للبحث عن سبب الجريمة، معتمدة في ذلك على الوسائل التي توفرها علوم
الإنسان، التي اختلفت باختلاف المقاربات من تحليل بيولوجي انتربولوجي اجتماعي
وعقلي ونفسي. إلا أنها لم تستطع أن تقدم للباحث العلمي الجواب الكافي لمعرفة علة
الجريمة وربطها بالنتيجة الإجرامية. وما تعدد النظريات العلمية التي تناولت الجريمة
إلا دليل على أن تحديد الجريمة لا يخضع لمعيار دقيق ومضبوط، بل يجب أن تتظافر
جهود كل العلوم لمعرفته معرفة تلم بمختلف أبعاد الجريمة، التي تتخذ مظاهر متعددة،
يصعب التحكم فيها، وهذا راجع بالأساس لكون الجريمة ظاهرة معقدة تتداخل فيها
مجموعة من العوامل.
وهدف البحث العلمي هو إزالة الغموض واللبس لتصبح الحقيقة واضحة وجلية،
فحقيقة الجريمة يمكن تعريفها من خلال الأسلوب الذي يجري عليه علم الإجرام في
تفسيره للظاهرة الإجرامية نفسها. وسواء تعلق الأمر بالاتجاه الأوربي أو الاتجاه
الأمريكي في تحديد مفهوم الإجرام، وبالتالي دراسة الجريمة، فإن أسلوب علم الإجرام
يتناول الجريمة أولا كظاهرة فردية وكظاهرة عامة في المجتمع .
ومن جهة ثانية تناول 7
الجريمة في مفهومها كحقيقة قانونية وفي مفهومها الاجتماعي أي كحقيقة واقعية.
ولهذا كله يجب التطرق لكل هذه الاتجاهات بهدف فهم الظاهرة الإجرامية التي تتحدد
إما بنص قانوني وإما بفعل اجتماعي يقلق راحة المجتمع. وبهذا تعددت الاتجاهات في
تناول الجريمة. وهذا راجع لخطورتها وأثرها السلبي على تماسك المجتمع واستقراره.
وكذا انعكاساتها على مستوى تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
المبحث الأول: تحديد ماهية علم الإجرام
مما لا شك فيه أنه ليس هناك تعريف جامع شامل لعلم الإجرام، وهذا راجع بالأساس
لحداثة نشأته، ولكونه يتناول ظاهرة تتميز بالتغير في الزمان والمكان وتتداخل فيها
مجموعة من الأبعاد، مما يصعب إعطاء تعريف دقيق لها. وهذا ما أدى إلى ظهور
اتجاهين مختلفين، اختلفا في كون الجريمة متأصلة في الإنسان ومورثة أم كونها
سلوكا مكتسبا. فما مدى مساهمة هذين الاتجاهين في تفسير الظاهرة الإجرامية؟
أولا: الاتجاه الأوروبي:
إن الاتجاه الأوربي في تحديده لعلم الإجرام اعتمد بشكل أساسي على موقف أساتذة
القانون الجنائي، الذين ساهموا في إغناء النقاش حول المجرم على المستوى الداخلي
المرتبط بما هو عضوي ونفسي، وكذا أثر العوامل الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية
على سلوكه. وما ميز هذا الاتجاه هو تناوله للجريمة، باعتبارها ظاهرة اجتماعية
مرتبطة بعوامل التطور الاجتماعي. وقد ساهم هذا الاتجاه في تقديم إضافة نوعية لعلم
الاجرام.
وقد ركز الاتجاه الأوربي على دراسة شخصية المجرم والبحث عن أسباب السلوك
الإجرامي. فمنهم من اتخذ من العامل البيولوجي كمحدد أساسي للسلوك الإجرامي،
منطلقا من فكرة مفادها أن المجرم يعاني من خلل عضوي، الذي يدفعه بشكل مباشر إلى
ارتكاب الجريمة. واتجاه آخر ربط السلوك الإجرامي بعوامل نفسية واجتماعية. لذا فعلم
الإجرام بدأ على شكل محاولات فردية عيادية وميدانية، واعتبر هذا الاتجاه أن علم
الإجرام العيادي أو الكلينكي أسبق إلى الظهور من علم الإجرام العام. وهذا ما جعل
الأستاذ بنتيل يفرق في مؤلفه الشهير "علم الإجرام" بين علم الإجرام العام وعلم
الإجرام العيادي.
أ : علم الإجرام العام :
وهو فرع من فروع علم الإجرام يختص بدراسة المجرم والجريمة، متخذا من العوامل
العامة كأساس للوصول إلى تحديد العوامل المساعدة على الإجرام. ويركز هذا الفرع
على دراسة المواقف والمدارس الاجتماعية من الجريمة، وكذا المؤسسات والمرافق
الاجتماعية المناهضة للجريمة ومعرفة بواعثها. ويتخذ الباعث أو العامل في علم
الاجرام العام، معنى مخالفا للدافع في علم الإجرام العيادي.
ب : علم الإجرام العيادي :
يشكل فرعا آخر من فروع علم الإجرام، يهتم بدراسة وتحليل حالات انفرادية باستعمال
تقنيات ووسائل معروفة في العلوم الجنائية المتخصصة، مما جعل منه علما تطبيقيا،
يتأسس على دراسة الحالات الفردية من أجل وضع خطة للوقاية والعلاج. وهو يشبه
علم الطب. إذ يهتم بدراسة الحالة الخطرة، ويطلق عليها اسم التشخيص الكلينيكي لهذه
الحالة الخطرة. وهذا ما يساعد على التنبؤ باحتمال وقوع الجريمة من جديد، ومن ثم
فإن هذا الجزء من علم الإجرام يكون بإمكانه القيام بمتابعة الحالات المدروسة ووضع
برنامج لكل حالة لعلاجها أو التقليل من خطورتها. لذا فهو يهتم بحالات بعينها تشكل
مصدر قلق للمجتمع.
وبهذا فعلم الإجرام العيادي يقوم على الفحص والتشخيص والعلاج في معالجته
للظاهرة الإجرامية، وأبرز مثال على ذلك أن يهتم الباحث بأثر السكر وتعاطي المخدرات
أو دراسة حالة الفقر والتخلف الاقتصادي وأثر كل عامل من هذه العوامل على السلوك
الإجرامي. ويبدو أن هذه العوامل تساهم بشكل أو بآخر في تفشي السلوك الإجرامي. لذا
يجب أن تتظافر جهود كل هذه العلوم من أجل تشخيص وعلاج كل حالة على حدة.
ومن هنا فهو يهتم بتشخيص ودراسة كل حالة على حدة، وأثر العامل المشار إليه أعلاه
على ارتكاب الجريمة. واي عامل من هذه العوامل، إلا ويشكل دافعا إلى ارتكاب الجريمة.
ثانيا: الاتجاه الأمريكي :
اتخذ الاتجاه الأمريكي منحى مغاير له، حيث ظهرت
الدراسات الاجتماعية في مناخات علمية ملائمة للمجتمع الأمريكي، مما أضفى عليها
طابع اجتماعي. فأصبحت الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية مشكلة قومية
خطيرة، مما دفع المهتمين والباحثين إلى دراسة المؤسسات والنظم الاجتماعية، وكذا
مرافق العدالة الجنائية التي تفتقد للنزاهة والحياد وأثرها على توفير مناخ مناسب
لارتكاب الجريمة. وبهذا فهو يركز على العوامل الخارجية المساعدة على تفشي الجريمة
في المجتمع.
وبهذا أضفى هذا الاتجاه لمسة اجتماعية في دراساته للإجرام، وذلك من خلال ربطه
الجريمة بما هو اجتماعي من مؤسسات ونظم وأثرها على سلوك الفرد والجماعة،
فأصبحت الجريمة مرتبطة بالمجتمع. وهذا هو الذي دعم التيار السوسيولوجي في
دراسته للجريمة، مما جعلها ترتبط بالتطور الاجتماعي.